الربيع الطلابي- غزة تهز الجامعات الأمريكية وتُربك بايدن

المؤلف: د. طارق الزمر11.02.2025
الربيع الطلابي- غزة تهز الجامعات الأمريكية وتُربك بايدن

أليس من الغريب أن نرى الطلاب الأميركيين ينتفضون اليوم، معترضين بشدة على دعم حكومتهم للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، تلك البقعة الصامدة التي تشهد أشرس مقاومة في التاريخ الحديث؟ ألا يشبه هذا إلى حد كبير احتجاجاتهم قبل نصف قرن، عندما ثاروا ضد التدخل العدواني لحكوماتهم في فيتنام، مدافعين عن الشعب الفيتنامي الثائر؟ وهل ستترك هذه الاحتجاجات بصمة مماثلة على السياسة والمجتمع الأميركيين، كما فعلت احتجاجات السبعينيات التي غيرت وجه البلاد؟

في ستينيات القرن الماضي، كانت مطالب وقف الحرب في فيتنام تتشابك مع نداءات السود المطالبة بالحقوق المتساوية، وإدانة نظام الفصل العنصري البغيض في جنوب أفريقيا. أما اليوم، فالاحتجاجات الحالية تركز بشكل أساسي على غزة، مطالبة بصوت واحد مدوٍ: "الحرية لفلسطين". لقد انطلقت المظاهرات الطلابية العارمة، مطالبة بالحق الفلسطيني الكامل من البحر إلى النهر، هذا الشعار الذي كاد أن يختفي من عالمنا العربي. كما صدحت حناجر الطلاب مطالبة برحيل الاحتلال الصهيوني وعودته من حيث أتى.

ربيع أميركي

لقد اتخذت الاحتجاجات شكل اعتصامات جريئة داخل الحرم الجامعي، متجاهلةً رفض السلطات التي وجدت نفسها في مأزق حقيقي. فالطلاب يمثلون نبض المجتمع الأميركي، ولا يمكن تجاهل أصواتهم أو طمس مطالبهم. لقد وصلت أصداء احتجاجاتهم بالفعل إلى أركان العالم الأربعة، وإذا تركت دون حل، فإنها ستضع الإدارة الأميركية الداعمة للإبادة الجماعية في موقف حرج للغاية. أما إذا قمعت، فإنها ستجر الديمقراطية إلى أزمة عميقة، خاصة وأن هذا القمع يحدث داخل حدود البلاد، وليس في دول العالم الثالث البعيدة. ويزداد الأمر سوءًا عندما يلجأ الحكام إلى استخدام إدارات الجامعات لقمع الطلاب المحتجين.

لقد انتشرت الاحتجاجات في طول البلاد وعرضها، لتشمل أكثر من أربعين جامعة وكلية، بالإضافة إلى احتجاجات الطلاب في كندا. ومن بين الجامعات الأميركية التي تشهد حراكًا طلابيًا واسعًا، تبرز جامعات "كولومبيا" و"بنسلفانيا"، بالإضافة إلى جامعات "كارولينا الشمالية" و"دالاس" و"سانت أنتونيو" و"أوستين" في ولاية تكساس الجنوبية. وامتدت الاحتجاجات لتصل إلى جامعات ولاية "نيو مكسيكو" وجامعة "ستانفورد" العريقة في ولاية كاليفورنيا في الغرب، ولم تسلم منها جامعات "مينيسوتا" و"أوهايو" في الوسط.

لم أتمالك نفسي وأنا أسترجع في خيالي صور الربيع العربي، تلك الثورة التي انطلقت نصرةً للحرية والكرامة الإنسانية. وها أنا اليوم أشاهد الطلاب في الجامعات الأميركية في ربيع آخر، يفترشون الأرض داخل مخيمات الاعتصام التي أقاموها خصيصًا، انتصارًا لغزة وتأييدًا لفلسطين في وجه آلة الحرب الأميركية/الصهيونية الجهنمية التي لا ترحم شيئًا. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فالاحتجاجات مستمرة وتتصاعد، وتتسع لتشمل المزيد من الجامعات، مسببة حرجًا بالغًا للإدارة الديمقراطية واللوبي الصهيوني المتنفذ. كما أنها تضع إسرائيل أمام حقيقتها التي طالما حاولت تضليل العالم بشأنها لأكثر من سبعين عامًا. لهذا، انطلق اللوبي الصهيوني، الذي يمول العديد من الجامعات الأميركية بسخاء، يهدد ويتوعد، في حين انتفض نتنياهو شخصيًا ليهاجم هذه الاحتجاجات ويدينها.

لقد وصلت الاحتجاجات إلى جامعات "كولومبيا" و"ييل" و"نيويورك" وجامعة "جورج واشنطن"، التي تشهد لأول مرة اعتصامًا في قلب العاصمة. وتمكن طلاب كلية "إيمرسون" من نصب الخيام بالقرب من المباني الأكاديمية في وسط مدينة بوسطن. كما نصب طلاب معهد "ماساتشوستس" للتقنية العديد من الخيام في الحرم الجامعي لجامعة "كامبردج"، وانضم إليهم طلاب جامعة "هارفارد" المرموقة بعد أن منعتهم الشرطة من الوصول إلى حديقة جامعتهم. والخيام نفسها، وربما بأعداد أكبر، تزين الحرم الجامعي لجامعة "ميشيغان". واضطرت الشرطة إلى إزالة المخيمات من أمام مكتبة جامعة "مينيسوتا" واعتقلت عددًا من طلابها.

وفي جامعة "تكساس"، استخدمت الشرطة الخيول لتفريق المتظاهرين واعتقلت عددًا كبيرًا منهم. وفي جامعة "كاليفورنيا"، تم إغلاق الجامعة وطلبت الإدارة من الشرطة فض المظاهرات التي كان على رأس مطالبها "إيقاف كل أشكال التمويل لإسرائيل" و"إقامة برنامج للدراسات الفلسطينية". وفي جامعة "إنديانا"، تم اعتقال العديد من الطلاب بعد رفضهم إزالة هيكل مخيمات الاعتصام، وما زال مطلبهم الرئيسي هو "الحرية لفلسطين". والآن، ينتفض الأكاديميون غضبًا للتعدي على طلابهم وعلى حريتهم في التعبير، فنالهم ما نال طلابهم من اعتقال وتعسف.

بايدن المرتبك

الأمر اللافت للنظر والمهم في الوقت نفسه هو مشاركة طلاب يهود في هذه الاحتجاجات، في رد قاطع على محاولات تحميل الاحتجاجات تهمة "معاداة السامية" المعتادة. فهم ينفون بشكل قاطع أن تكون هذه الاحتجاجات معادية للسامية، بل إنهم احتفلوا بعيد الفصح اليهودي في وسط الاحتجاجات وبين المتظاهرين.

كما أن جمعية يهودية تطلق على نفسها اسم "يهود من أجل السلام" دعت زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ اليهودي "تشاك شومر" إلى قيادة حملة لوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل. كما احتشد آلاف المتظاهرين اليهود من أنصار الجماعات المدافعة عن السلام في مدينة نيويورك خلال "عيد الفصح"، مطالبين بوقف تسليح إسرائيل.

ولا تزال المظاهرات تتوسع لتشمل طلاب المدارس، في مشهد يذكرنا بمظاهرات الشارع المصري في عامي 2008 و 2009 إبان العدوان الإسرائيلي على غزة، والتي شملت كل أطياف الشعب وكل شرائحه العمرية حتى وصلت إلى المدارس الابتدائية، في موجة شبيهة بثورة يناير/كانون الثاني والربيع العربي الذي اندلع بعد ذلك بعامين، والذي لم يكن بعيدًا عن دعم غزة والانتصار لفلسطين.

المظاهرات تضرب السياسات الأميركية في الصميم، ولهذا فقد وضعت الرئيس بايدن، المعروف بميوله الصهيونية، في موقف حرج للغاية، فجعلته يظهر أكثر ارتباكًا مما هو عليه بالفعل، ويتهم المتظاهرين بمعاداة السامية! فإذا كان الشعب الأميركي الذي لم يرضع إلا احترام السامية ولم يتغذ إلا على الفكر الصهيوني يعادي السامية، فمن ذا الذي لا يعاديها في منطقهم؟ وهنا ربما لا نجد إلا أن نستحضر الأمثال الشعبية التي تندد بمن يزايد على المزايد!.

إنها ذات التهمة التي طالما استخدمها الكيان الصهيوني لابتزاز كل من يرفض جرائمه ويستنكر تجاوزاته، حتى يخضع ويذعن لمنطق الصهيونية ومصالحها. علمًا أن الطلاب كانوا حريصين كل الحرص على التمييز بين اليهودية والصهيونية وسياسات حكام إسرائيل، وقد صرحوا بذلك علنًا، ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئًا بالنسبة لمن يضمرون الشر.

تبريرات واهية

ولم تجد السلطات الأميركية مفرًا من اللجوء إلى استخدام "قوات خاصة لمكافحة الشغب" واستعمال ذرائع خطيرة مثل "مكافحة الإرهاب" و"دعم حماس للمحتجين"، في منطق يذكرنا بدول العالم الثالث، وربما الرابع! كما لجأت جامعة كولومبيا إلى إلغاء الدراسة الحضورية والاكتفاء بالدراسة عبر الإنترنت، كما تفعل الحكومات في بلادنا!.

ومن المفارقات العجيبة أن السلطات استخدمت نفس حجج حكومات العالم الثالث، قائلةً إن الطلاب لا ينبغي لهم التدخل في السياسة، وعليهم أن ينشغلوا بدروسهم! وهو ما ردت عليه منظمة العفو الدولية قائلة: "أن تكون طالبًا لا يعني التخلي عن حق الاحتجاج على أبواب الجامعة".

الحقيقة أننا نشهد مرحلة جديدة تتهاوى فيها جوانب أخرى من صورة الديمقراطية الأميركية، وتتفكك فيها هيمنة اللوبي الصهيوني الذي ظل طوال عقود الصراع متغلغلًا في كل مسام المجتمع الأميركي، ومحاصرًا لكل تطلعاته الذاتية، ما لم تتوافق مع المخططات الصهيونية. ويبدو أن الثمن سيكون باهظًا، فقد اضطرت السلطات الأميركية إلى التخلي عن كل القيم الديمقراطية، وهي تهدم المعبد على رؤوس ساكنيه، وتعتدي على الطلاب وتعتقلهم، وتقتحم الاعتصامات وتدمر مخيماتها.

لا شك أن المجتمع الأميركي يقف اليوم على مفترق طرق، وأن أجيالًا شابة جديدة داخل جامعات النخبة ترفض السياسات الإمبريالية القديمة، وأن ثقافة المجتمع السياسية الراسخة عبر عقود طويلة تتعرض لزلزال كبير، وأن "الربيع الأميركي" لم يعد بعيدًا. وهذا لا يمكن فهم أسبابه وأبعاده إلا من خلال رؤية الصمود الأسطوري لغزة، التي تتعرض للإبادة الجماعية بصبر وثبات، وترفض أن تصرخ أو تئن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة